في موعد افتتاح "المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله" بحلته الجديدة، كان الانبهار مستوليا على ردود الفعل، وأخذت فئة واسعة من الجماهير، ومعها الرأي العام الرياضي، يعزفان سمفونية واحدة، تُحرّكها أنغام الإشادة بما أُنجز والثناء على ما تحقّق. تردّدت نفس العبارات وتنقّلت بين الألسن، من "تحفة عالمية" إلى "صرح رياضي" وغيرهما من الصور البلاغية والمجازية.
لم يشذّ هذا التفاعل المغربي مع "الملعب الجديد" عن إطار المتوقع، ولا زاغ عن المسار المُنتظر عند نهاية الأشغال وجاهزية المركب، فالجماهير تجد نفسها أمام فضاء رياضي بمواصفات غير مسبوقة في المملكة، من حيث الهندسة والشكل الجمالي ونوعية التجهيزات. لكن، في غمرة هذا الانتشاء بما شُيِّد، بلغ التّطرُّف عنفوانه وذروته، وبات أي تعقيب بمثابة مساس بـ"المُقدّس".
صبّ الخطاب الذي تم تداوله على هامش هذه المناسبة في اتجاه واحد، وبدا أي موقف مُناقض كأنه نشاز وخروج عن النص. وما إن حلّ يوم المباراة الموعود، التي جمعت المنتخب الوطني بنظيره النيجري، حتى أبلغتنا بعض الجزئيات والتفاصيل بأن المشهد ليس ناصع البياض بالمطلق، وأحالنا على أن رسم "تحفة معمارية" لا يكفل إنكار الواقع والقفز على الحقائق الملموسة.
ما عاشته الجماهير التي حجّت بكثاقة من ازدحام في المداخل المؤدية إلى الملعب، وطول المسافة المقطوعة على الأقدام، يمكن استساغته والقبول بحتمية أن كل مناسبة قد تشوبها بعض الاختلالات. غير أن المشهد الذي تصدّر ما أعقب المباراة كان بليغا ويجدر التوقف عنده، عشرات المناصرين ينزلون إلى أرضية الميدان ويجوبون جوانبه، يلتقطون صورا أمام المرمى، وينطّون فوق المستطيل الأخضر كـ"أطفال" غنموا عطايا يوم العيد.
هذا الموقف الذي ربما يبدو منفلتا عن دعاية مُسيطرة ومُركّبة بالمثالية تروم الإبهار، ينبغي تحليله ورصد أسبابه، إنها لحظة امتدت لبضع دقائق، حيث التسيُّب ذاع واستشرى على أرضية الملعب، لكنها تستحق تدبُّرها ودراستها لأشهر بل سنوات. هي حقيقة جزء من ذهنيتنا ونمطنا السلوكي كمجتمعٍ، لازال يتعثّر على المستوى القيمي ويعجز عن مجاراة الإيقاع الذي يسير به تشييد الإسمنت والحجر والعمران.
يُغدق المغرب بميزانيات ضخمة على تنظيم التظاهرات واستضافة الأحداث، فيما يغيب تصور واضح حول الإطار الذي يجب أن تدخل فيه هذه الاستثمارات، هل ترمي إلى تجويد مستوى العيش المجتمعي وتحريك الخدمات والقطاعات الأساسية وجعلها رافعة للتنمية؟ أم تصبو إلى إضفاء مساحيق التجميل على الواجهة وإضافة بهارات في طبقٍ نرجوه شهياً للمتذوقين ومُرّاً في أفواهنا؟
أما يكن الجواب، وكيف ما كان الخيار، نكون قد غفلنا، لحدود الآن، عن الأرضية الصلبة للبناء، والقاعدة الأساسية للتقدُّم المنشود. لقد تجاهلنا العنصر البشري، ولم نلتفت إلى ما يلزمنا لإرساء عقلية فردية ومجتمعية تُقيم قطيعة مع الانحرافات. وما علمت، في الواقع، نموذجا بين الدول اهتم بالبنايات الشاهقة واتّخذه نفسه منصة لاحتضان المحافل الدولية، قد نجح في جعل هذه المناسبات ذات جدوى، مجتمعيا وسلوكيا، دون انطلاقه من بناء الإنسان وصقل ذهنيته.
مقابلة يوم الجمعة الفارط وما أحاط بها هو بمثابة مختبر حقيقي نواجه فيه أنفسنا، ونقف به على بعض الحقائق الخاصة بنا، ومن بينها جودة إعلامنا التلفزيوني خاصة، الذي ظهر بمنأى عن هذه الدينامية وبدا منكفئا على ذاته ولازال وفيا لماضٍ راكد وجامد لا يتحرّك، في الوقت الذي يُنتظر منه أن يضطلع بأدوار محورية وأساسية في تناول الأحداث المهمة التي ستنظمها المملكة مستقبلا.
ولعلّ أبرز ما بوسعنا استخلاصه من افتتاح "الملعب الجديد" والنقاشات التي رافقته هو إدماننا التعلُّق بزاوية نظر واحد لا تقبل الاختلاف، فقد حاولت الاطلاع على ردود الفعل إزاء الحلة الجديدة لـ"مركب الأمير مولاي عبد الله"، وبحثت عن تعليقات تُغرّد خارج الرواية الموحدة، وحتى لمّا اهتديت إليها اكتشفت هجمات غير مبررة على أصحابها، كأنهم يُضمرون السوء لبلدهم، ويُصنّفون في خانة "العقوق" لوطنهم.
إن من يُكِنّ الحب للتربة التي نشأ فيها والفضاء الذي ترعرع فيه هو من يتحلّى بالجرأة في لفت الانتباه إلى النواقص ومكامن القصور، وهو يُمنّي النفس بالاشتغال عليها وتصويبها، وليس من يُجامل وينخرط في حملة الدعاية الجماعية، دون أن يوسع صدره لقبول الواقع.