في الشارع الرياضي قبل أكثر من 15 سنة، كان مطلب الاشتغال القاعدي في الكرة المغربية وتطوير الفئات السنية متلازمة تتردّد كثيرا، بل حتى بعض ما يُمكن وصفه آنذاك بإنجازات لم تكن تحجب هذه الحتمية أو تسحبها من النقاش الرياضي في الساحة الوطنية. بلغ المنتخب الأول نهائي كأس أمم أفريقيا سنة 2004 للمرة الثانية في تاريخ المسابقة، لكن الأصوات الحكيمة ظلت في غمرة الفرح الجماعي تُنبِّه إلى أن النجاح الكروي لا ينبغي أن يتم عبر فلتات مناسباتية، وإنما داخل بنية مهيكلة ومُخطّط لها بشكل دقيق.
جرّب المتعاقبون على تدبير الشأن الرياضي بالمملكة وصفات كثيرة، اسْتُقطب مدربون ذائعو الصيت للإشراف على المنتخب الأول، وحَسِبَ العديدون أن العجلة بإمكانها أن تتحرّك وتنطلق بهذه المنهجية، غير أن جُرح الكرة المغربية الدفين آنذاك ما كان ممكنا ترميمه بالمسكنات، فقد جاء البلجيكي إيريك غيريتس سنة 2010 بأسهم مرتفعة بعد قيادة أولمبيك مارسيليا والهلال، انتظرناه لأشهر علّه يحمل معه العصا السحرية لطرد النحس وتجفيف منابع فشل لازمنا لسنوات، بيد أن جدار الإخفاق كان مصيرنا المُعتاد.
تأهُّلُ المنتخب الوطني لنهائي كأس العالم للشبان، يوم أمس الأربعاء، كان بمثابة حُلم بعيد المنال يُراود الكثيرين قبل عقود. وليس منطقيا أن نعزل هذا الإنجاز ونجعله شذوذا عن القاعدة، الواقع أن السنوات الأخيرة راكمت فيها الكرة المغربية بغزارة مثل هذه النتائج، ولا يسع المجال هنا لذكرها جميعا، يكفي استحضار التتويج بكأس أمم أفريقيا تحت 17 سنة وحيازة الميدالية النحاسية في الألعاب الأولمبية بباريس السنة الماضية.
المُقاربة التي تُدبَّر بها المنتخبات الوطنية، خاصة في فئاتها السنية الشابة، لا تترك هامشا كي تُسجّل ضدها مؤاخذات أو عتاب. ثمة دينامية حيوية في مختلف الأعمار وهناك خيط ناظم بينها واتّجاه واحد تصُبُّ فيه، والمتابع لهذا المشهد ليس بوسعه أن ينكر أن هذا الإقلاع الكروي جاء بإرادة سياسية وتسييرية واشتغال ينطلق من الجذور وصولا إلى الواجهة.
استطاع "أشبال الأطلس" في التشيلي استلام المشعل من المنتخبات الوطنية وإكمال مسار الرّكض نحو القمة، وأظهرت كتيبة المدرب محمد وهبي قيماً تُشكّل العمود الفقري للنموذج المثالي للنجاح. لقد صدّروا صورا مُفعمة بحب القميص والبذل في سبيل المجموعة والقتالية والاستماتة والتفاني، وأثبتوا أنهم كيان متراصّ تنتفي فيه النزعة الفردانية وتغليب الأنا، وهذا معطى يجدر نسبه إلى الطاقم التقني بقيادة وهبي، لحذاقته في زرع الروح الإيجابية في صفوف المنتخب.
صحيح أن الكمال من المُحال في سنن الحياة، لكن الحُلم هو كلٌّ لا يتجزَّأ، والأماني دوما ما تتميّز بشموليتها. إذا كانت المنتخبات الوطنية تحثُّ الخطى بسرعة صوب الأمام، في الجانب الآخر تتعثّر الأندية المغربية والمسابقات المحلية التي تُشارك فيها، وتتخبّط في فضاء تشوبه الكثير من الاختلالات، بما يجعل المشهديْن على طرفيْ نقيض ولا نكاد نهتدي فيهما إلى رابط، وهو ما يُبرز الجانب القاتم المُلقى على الهامش، أمام الإنجازات التي تُراكمها المنتخبات الوطنية.
حينما توفّرت الإرادة السياسية للنهوض بالمنتخبات المغربية، كان المفعول والأثر باديان على النتائج، وأتت الاستراتيجية أُكلها. ذات الإسقاط يُمكن وضعه على الدوريات والأندية الوطنية، فالحاجة الآن ماسّة إلى مطابقة ما نحققه في المسابقات القارية والدولية مع الوضع الذي تعرفه الممارسة الكروية داخل المغرب. إن هذا الخيار ليس ترفاً وإنما خطوة مُلزمة، وإلا فإن الكرة الوطنية ستظل مثالا صارخاً على التناقض والتفاوت والتّباين بين مكوناتها رغم توحُّد منظومتها.
إن المطالب التي كانت تُرفع قبل أكثر من عقد ونصف لتحريك العمل القاعدي والرفع من جودة التكوين، جاز لنا أن نجعلها تسري الآن على إصلاح الأعطاب التي تشكو منها الأندية الوطنية والمسابقات المحلية، فهذه الأخيرة شئنا أم بينا هي الأرضية الصلبة التي يمكن الاستناد إليها في تقديم منظومة كروية ذات جودة مُستدامة ولا تنضب، وهي المُحرّك الأساسي والمصدر الرئيسي لنجاحات مبنية على ركائز متينة تقطع مع إنجازات الصُّدف والمناسبات.
أملنا أن يُكلّل أبناء المدرب وهبي حلمهم المونديال برفع اللقب في العاصمة التشيلية سانتياغو، ودخول التاريخ من أوسع أبوابه، ومساعينا في الجانب الآخر لازال تترجّى إصلاحا هيكليا وبنيويا ينتشل الأندية الوطنية من مستنقع المعاناة الذي تغرق فيه، عسانا نلمس مشهدا كرويا وطنيا مكتمل الأركان لا مجال فيه للتناقضات.